الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: أفضل العبادات ما وافق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدي الصحابة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). وقال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم). وقال ابن مسعود: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛/ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد. فإذا عرف هذا الأصل، فالأمر الذي كان معروفاً بين المسلمين في القـــرون المفضلة، أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعــة، فرضــها ونفلــها، من الصلاة، والصيام، والقـراءة، والذكر، وغـير ذلك. وكانـوا يدعـون للمؤمنـين والمؤمنـات، كما أمـر الله بذلك لأحيائهم، وأمواتهم، في صلاتهم على الجنازة، وعند زيارة القبــور، وغير ذلك. وروي عن طائفة من السلف عند كل ختمة دعوة مجابة، فإذا دعا الرجل عقيب الختم لنفسه، ولوالديه، ولمشائخه، وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات، كان هذا من الجنس المشروع. وكذلك دعاؤه لهم في قيام الليل، وغير ذلك من مواطن الإجابة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر بالصدقة على الميت، وأمر أن يصام عنه الصوم. فالصدقة عن الموتي من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنة في الصوم عنهم. وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء: إنه يجوز إهداء ثواب العبادات المالية، والبدنية إلى موتي المسلمين. كما هو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي. فإذا أهدي لميت ثواب صيام، أو صلاة، أو قراءة، جاز ذلك./ وأكثر أصحاب مالك، والشافعي يقولون: إنما يشرع ذلك في العبادات المالية، ومع هذا فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً، وصاموا، وحجوا، أو قرؤوا القرآن، يهدون ثواب ذلك لموتاهم المسلمين، ولا لخصوصهم، بل كان عادتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فإنه أفضل وأكمل. والله أعلم.
فأجاب: إذا هلل الإنسان هكذا: سبعون ألفاً، أو أقل، أو أكثر، وأهديت إليه، نفعه الله بذلك، وليس هذا حديثا صحيحاً، ولا ضعيفاً. والله أعلم.
/ فأجاب: يصل إلى الميت قراءة أهله، وتسبيحهم، وتكبيرهم، وسائر ذكرهم لله تعالى، إذا أهدوه إلى الميت، وصل إليه. والله أعلم.
فأجاب: أما وصول ثواب العبادات البدنية ـ كالقراءة، والصلاة، والصوم ـ فمذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي، إلى أنها تصل، وذهب أكثر أصحاب مالك، والشافعي، إلى أنها لا تصل. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، من كان من أمة أصلها كفار، لم يجز أن يستغفر لأبويه، إلا أن يكونا قد أسلما. كماقال تعالى: /باب زيارة القبور فأجاب: أما زيارة القبور فهي على وجهين: شرعية، وبدعية. فالشرعية: مثل الصلاة على الجنازة، والمقصود بها الدعاء للميت كما يقصد بذلك الصلاة على جنازته. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع، ويزور شهداء أحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وهكذا كل ما فيه دعاء للمؤمنين من الأنبياء وغيرهم؛ كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام. كما في الصحيح عنه أنه قال:/ (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة، حلت له شفاعتي يوم القيامة. وما من مسلم يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). وأما الزيارة البدعية ـ وهي زيارة أهل الشرك، من جنس زيارة النصاري الذين يقصدون دعاء الميت، والاستعانة به، وطلب الحوائج عنده، فيصلون عند قبره، ويدعون به ـ فهذا ونحوه لم يفعله أحد من الصحابة، ولا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من سلف الأمة، وأئمتها، بل قد سد النبي صلى الله عليه وسلم [باب الشرك]. في الصحيح أنه قال في مرض موته: (لعن الله إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). يحذر ما فعلوا. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ولولا ذلك لأبرز قبره. لكن كره أن يتخذ مسجداً. وقال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). فالزيارة الأولى من جنس عبادة الله، والإحسان إلى خلق الله، / وذلك من جنس الزكاة التي أمر الله بها. والثانية: من جنس الإشراك بالله، والظلم في حق الله، وحق عباده، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أنزل الله ـ تعالى ـ وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). وقد قال الله تعالى: /وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه. ثم ينصرف. وقد نص عليه مالك، وغيره من الأئمة، ونص أبو يوسف وغيره من العلماء على أنه ليس لأحد أن يسأل الله بمخلوق، لا النبي، ولا الملائكة ولا غيرهم. وقد أصاب المسلمين جدب وشدة، وكانوا يدعون الله، ويستسقون ويدعون على الأعداء ويستنصرون، ويتوسلون بدعاء الصالحين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم: بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم). ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صالح، ولا الصلاة عنده، ولا طلب الحوائج منه، ولا الإقسام على الله به، مثل أن يقول القائل: أسألك بحق فلان، وفلان. بل كل هذا من البدع المحدثة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم). وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير طباق الأمة.
فأجاب: أما الاختلاف إلى القبر بعد الدفن، فليس بمستحب، وإنما المستحب عند الدفن أن يقام على قبره، ويدعي له بالتثبيت. كما روي أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره، ويقول: (سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل). وهذا من معني قوله: فزيارة الميت المشروعة بالدعاء، والاستغفار هي من هذا القيام المشروع.
/ فأجاب: الحمد لله، نعم قد جاءت الآثار بتلاقيهم، وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات. كما روي ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري: قال: (إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله، كما يتلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه ويسألونه، فيقول بعضهم لبعض: أنظروا أخاكم يستريح، فإنه كان في كرب شديد. قال: فيقبلون عليه، ويسألونه ما فعل فلان وما فعلت فلانة، هل تزوجت) الحديث. وأما علم الميت بالحي إذا زاره، وسلم عليه، ففي حديث ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه،إلا عرفه، ورد عليه السلام. قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام. /وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد، ورزقه، وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة، فذهب طوائف إلى أن ذلك مختص بهم دون الصديقين، وغيرهم. والصحيح الذي عليه الأئمة، وجماهير أهل السنة: أن الحياة، والرزق، ودخول الأرواح الجنة، ليس مختصاً بالشهيد. كما دلت على ذلك النصوص الثابتة،ويختص الشهيد بالذكر، لكون الظان يظن أنه يموت، فينكل عن الجهاد، فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد، والشهادة. كما نهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق؛ لأنه هو الواقع. وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق.
/ وإذا قيل بالكراهة: هل تكون كراهة تحريم أم تنزيه؟ وهل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، أم لا؟ وهل صح في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الأحاديث، أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما زيارة القبور فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قد نهي عنها نهيا عامًا، ثم أذن / في ذلك.فقال:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. فإنها تذكركم الآخرة).وقال صلى الله عليه وسلم:(استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنت في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة). وهنا مسألتان: إحداهما: متفق عليها، والأخري متنازع فيها. فأما الأولى: فإن الزيارة تنقسم إلى قسمين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية: السلام على الميت، والدعاء له، بمنزلة الصلاة على جنازته، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وهذا الدعاء يروي بعضه في بعض الأحاديث، وهو مروي بعدة ألفاظ. كما رويت ألفاظ التشهد وغيره وهذه الزيارة هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها إذا خرج لزيارة قبور أهل البقيع. وأما الزيارة البدعية: فمن جنس زيارة إليهود والنصاري، وأهل / البدع، الذين يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب الصحاح وغيرها أنه قال عند موته: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). يحذر ما فعلوا. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). فالزيارة البدعية مثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده أو الدعاء عنده، أو به، أو طلب الحوائج منه، أو من الله ـ تعالى ـ عند قبره، أو الاستغاثة به، أو الإقسام على الله ـ تعالى ـ به، ونحو ذلك، هو من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان ولا سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه الراشدين، بل قد نهي عن ذلك أئمة المسلمين الكبار. والحديث الذي يرويه بعض الناس: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي)، هو من المكذوبات التي لم يروها أحد من علماء المسلمين، ولا هو في شيء من كتب الحديث بمنزلة ما يروونه من قوله: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به)، فإن هذا ـ أيضًا ـ من المكذوبات. /وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يقسم على الله بمخلوق لا نبي ولا غيره، فمن ذلك ما ذكره أبو الحسين القدوري في [كتاب شرح الكرخي] عن بشر بن الوليد قال: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، وبحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. وقال أبو يوسف: بمعاقد العز من عرشه: هو الله تعالى، فلا أكره هذا. وأكره بحق فلان، وبحق أنبيائك، ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام. قال القدوري شارح الكتاب: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز، يعني: وفاقًا. قلت: وأما الاستشفاع إلى الله تعالى به، وهو طلب الشفاعة منه، والتوسل إلى الله بدعائه وشفاعته، وبالإيمان به، وبمحبته وطاعته والتوجه إلى الله تعالى بذلك، فهذا مشروع باتفاق المسلمين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول:(لا أملك / لك من الله شيئًا، قد أبلغتك). وفي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: (يافاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا، ياعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئًا، ياصفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، سلوني من مالي ما شئتم)، وقال ذلك لعشيرته الأقربين. وروي أنـه قال: (غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها)، فبين صلى الله عليه وسلم ما هو موافق لكتاب الله من أنه ليس عليه إلا البلاغ المبين، وأما الجزاء بالثواب والعقاب، فهو إلى الله تعالى. كما قال تعالى: وأما إجابة الداعي، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، فهذا لله ـ سبحانه وتعالى ـ وحده لا يشركه فيه أحد. ولهذا فرق الله ـ سبحانه ـ في كتابه بين ما فيه حق للرسول، وبين / ما هو لله وحده، كما في قوله تعالى: فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده، لا يشركه فيه أحد، وأما الطاعة والمحبة والإرضاء، فعلينا أن نطيع الله ورسوله، ونحب الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله؛ لأن طاعة الرسول طاعة لله، وإرضاءه إرضاء لله، وحبه من حب الله. وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين. فإن الله ـ تعالى ـ جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة / الرسول، بفعل ما أمر، وترك ما حذر. ومن جعل إلى الله طريقًا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة، فهو كافر بالله ورسوله: مثل من يزعم أن من خواص الأولىاء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله ـ تعالى ـ غير متابعة رسوله، ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب؛ كقول بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة، فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه. وقال بعضهم: إنهم أصبحوا ليلة المعراج، فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به، وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول. وقول بعضهم: إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار، وقالوا: من كان الله معه، كنا معه، وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر، والكذب. ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسي ـ عليه السلام ـ: على أن من الأولىاء من يستغنى عن محمد صلى الله عليه وسلم، كما استغني الخضر عن موسي، ومثل قول بعضهم: إن خاتم الأولىاء له طريق إلى الله، يستغنى به عن خاتم الأنبياء، وأمثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر، والتصوف والكلام والتفلسف. وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر إليهود والنصاري، وقد يكون / أعظم، وقد يكون أخف بحسب أحوالهم. والله ـ سبحانه ـ لم يجعل له أحدًا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية، والألوهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق، وإجابة الدعاء والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببًا: مثل أن يدعو أو يشفع، والله ـ تعالى ـ يقول: /فالمشركون أثبتوا الشفاعة، التي هي شرك؛ كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، وتجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله ـ تعالى ـ مشركون كفار؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافعين. وهو ـ سبحانه ـ أرحم بعباده من الوالدة بولدها؛ ولهذا قال تعالى: وأما الخوارج والمعتزلة: فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال، مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون. والقسم الثالث: هم أهل السنة والجماعة، وهم سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، وسنة رسوله / صلى الله عليه وسلم ونفوا ما نفاه الله في كتابه وسنة رسوله. فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث؛ كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إذا جاء الناس إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسي، ثم عيسي، ثم يأتونه عليه السلام، قال: (فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها على، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع)، فهو يأتي ربه ـ سبحانه ـ فيبدأ بالسجود والثناء عليه، فإذا أذن له في الشفاعة شفع، بابي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه المشركون والنصاري، ومن ضاهاهم من هذه الأمة،فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله ـ تعالى ـ كخواص الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله ـ تعالى ـ بمنزلة شركاء الملك، وبمنزلة أولاده. والله ـ تعالى ـ قد نزه نفسه المقدسة عن ذلك، كما قال تعالى: و[الزيارة البدعية] هي من أسباب الشرك بالله تعالى، ودعاء خلقه، وإحداث دين لم يأذن به الله. و[الزيارة الشرعية] هي من جنس الإحسان إلى الميت بالدعاء له، كالإحسان إليه بالصلاة عليه، وهي من العبادات لله ـ تعالى ـ التي ينفع الله بها الداعي، والمدعو له، كالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب الوسيلة، والدعاء لسائر المؤمنين ـ أحيائهم وأمواتهم. وأما المسألة المتنازع فيها: فالزيارة المأذون فيها: هل فيها إذن للنساء، ونسخ للنهي في حقهن؟ أو لم يأذن فيها،بل هن منهيات عنها؟ وهل النهي نهي تحريم، أو تنزيه؟ في ذلك للعلماء ثلاثة أقوال معروفة. والثلاثة أقوال في مذهب الشافعي، وأحمد ـ أيضًا ـ وغيرهما. وقد حكي في ذلك ثلاث روايات عن أحمد. وهو نظير تنازعهم في تشييع النساء للجنائز، وإن كان فيهم من يرخص في الزيارة دون التشييع، كما اختار ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. فمن العلماء من اعتقد أن النساء مأذون لهن في الزيارة، وأنه أذن / لهن كما أذن للرجال، واعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، خطاب عام للرجال والنساء. والصحيح أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه: أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) صيغة تذكير، وصيغة التذكير إنما تتناول الرجال بالوضع، وقد تتناول النساء ـ أيضاً ـ على سبيل التغليب، لكن هذا فيه قولان: قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل. وحينئذ، فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل. وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق.وعلى هذا،فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة المستفيضة في نهي النساء، كما سنذكره ـ إن شاء الله ـ تعالى ـ بل ولا ينسخها عند جمهور العلماء، وإن علم تقدم الخاص على العام. الوجه الثاني: أن يقال: لو كان النساء داخلات في الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور، كما استحب للرجال عند الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل بعلة تقتضي الاستحباب، وهي قوله: (فإنها تذكركم الآخرة). ولهذا تجوز زيارة قبور المشركين لهذه العلة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه، وقال: (استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة). /وأما زيارته لأهل البقيع: فذلك فيه ـ أيضًا ـ الاستغفار لهم والدعاء، كما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا قبور المؤمنين أن يسلموا عليهم، ويدعوا لهم. فلو كانت زيارة القبور مأذونًا فيها للنساء، لاستحب لهن، كما استحب للرجال؛ لما فيها من الدعاء للمؤمنين، وتذكر الموت. وما علمنا أن أحدًا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور، كما يخرج الرجال. والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما يروي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، وكان قد مات في غيبتها. وقالت: لو شهدتك لما زرتك. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء، كما تستحب للرجال، إذ لو كان كذلك، لاستحب لها زيارته، كما تستحب للرجال زيارته، سواء شهدته أو لم تشهده. وأيضًا، فإن الصلاة على الجنائز أوكد من زيارة القبور. ومع هذا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي النساء عن اتباع الجنائز، وفي ذلك تفويت صلاتهن على الميت، فإذا لم يستحب لهن اتباعها لما فيها من الصلاة والثواب، فكيف بالزيارة؟! /الوجه الثالث: أن يقال: غاية ما يقال في قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروا القبور) خطاب عام، ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة، فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان). هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ: [من] يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وإن خالف فيه من لا يدري ما يقول. ولفظ [من] أبلغ صيغ العموم، ثم قد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، سواء كان نهي تحريم أو تنزيه. فإذا لم يدخلن في هذا العموم، فكذلك في ذلك بطريق الأولى، وكلاهما من جنس واحد، فإن تشييع الجنازة من جنس زيارة القبور. قال الله تعالى: وكان دليل الخطاب وموجب التعليل يقتضي أن المؤمنين يصلي عليهم، ويقام على قبورهم. وذلك كما قال أكثر المفسرين: هو القيام بالدعاء والاستغفار، وهو مقصود زيارة قبور المؤمنين، فإذا كان النساء لم يدخلن في عموم اتباع الجنائز، مع ما في ذلك من الصلاة على الميت، فلأن لا يدخلن في زيارة القبور التي غايتها دون الصلاة عليه / بطريق الأولى، بخلاف ما إذا أمكن النساء أن يصلين على الميت بلا اتباع، كما يصلين عليه في البيت، فإن ذلك بمنزلة الدعاء له، والاستغفار في البيت. وإذا قيل: مفسدة الاتباع للجنائز أعظم من مفسدة الزيارة؛ لأن المصيبة حديثة، وفي ذلك أذي للميت، وفتنة للحي بأصواتهن، وصورهن، قيل: ومصلحة الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة؛ لأن في ذلك الصلاة عليه التي هي أعظم من مجرد الدعاء؛ ولأن المقصود بالاتباع الحمل والدفن، والصلاة فرض على الكفاية، وليس شيء من الزيارة فرضًا على الكفاية ـ وذلك الفرض يشترك فيه الرجال والنساء بحيث لو مات رجل وليس عنده إلا نساء لكان حمله ودفنه والصلاة عليه فرضًا عليهن، وفي تغسيلهن للرجال نزاع وتفصيل. وكذلك إذا تعذر غسل الميت هل ييمم؟ فيه نزاع معروف، وهو قولان في مذهب أحمد وغيره. فإذا كان النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية، ومصلحته أعظم إذا قام به الرجال، فما ليس بفرض على أحد أولى. وقول القائل: مفسدة التشييع أعظم، ممنوع، بل إذا رخص للمرأة في الزيارة كان ذلك مظنة تكرير ذلك، فتعظم فيه المفسدة، ويتجدد الجزع، والأذي للميت، فكان ذلك مظنة قصد الرجال لهن والافتتان بهن، كما هو الواقع في كثير من الأمصار، فإنه يقع بسبب /زيارة النساء القبور من الفتنة والفواحش والفساد ما لا يقع شيء منه عند اتباع الجنائز. وهذا كله يبين أن جنس زيارة النساء أعظم من جنس اتباعهن، وأن نهي الاتباع إذا كان نهي تنزيه، لم يمنع أن يكون نهي الزيارة نهي تحريم، وذلك أن نهي المرأة عن الاتباع قد يتعذر لفرط الجزع، كما يتعذر تسكينهن لفرط الجزع ـ أيضًا ـ فإذا خفف هذه القوة المقتضي، لم يلزم تخفيف ما لا يقوي المقتضي فيه. وإذا عفا الله ـ تعالى ـ للعبد عما لا يمكن تركه إلا بمشقة عظيمة، لم يلزم أن يعفو له عما يمكنه تركه بدون هذه المشقة الواجبة. الوجه الرابع: أن يقال: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين: أنه لعن زوارات القبور، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور. رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الإمام أحمد؛ وأبو داود والنسائي، والترمذي وحسنه، وفي نسخ تصحيحه. ورواه ابن ماجه من ذكر الزيارة. /فإن قيل: الحديث الأول رواه عمر بن أبي سلمة، وقد قال فيه على بن المديني: تركه شعبة، وليس بذاك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه. وقال السعدي والنسائي: ليس بقوي الحديث. والثاني فيه أبو صالح باذام، مولي أم هانئ، وقد ضعفوه. قال أحمد: كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح، وكان أبو حاتم يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له في المسند، ولم أعلم أحدًا من المتقدمين رضيه. قلت: الجواب على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: كل من الرجلين قد عدله طائفة من العلماء، كما جرحه آخرون. أما عمر فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: ليس به بأس، وكذلك قال يحيي بن معين: ليس به بأس. وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية. وأما قول من قال: تركه شعبة، فمعناه أنه لم يرو عنه. كما قال أحمد بن حنبل: لم يسمع شعبة من عمر بن أبي سلمة شيئًا، وشعبة، ويحيي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم، لا توجب رد / أخبارهم. فهم إذا رووا عن شخص، كانت روايتهم تعديلاً له. وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح، وهذا معروف في غير واحد قد خرج له في الصحيح. وكذلك قول من قال: ليس بقوي في الحديث. عبارة لينة، تقتضي أنه ربما كان في حفظه بعض التغير، ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعمد الكذب، ولا مبالغة في الغلط. وأما أبو صالح: فقد قال يحيي بن سعيد القطان: لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولي أم هانئ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة، فهذه رواية شعبة عنه تعديل له، كما عرف من عادة شعبة. وترك ابن مهدي له لا يعارض ذلك، فإن يحيي بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيي بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدي، وأمثاله. وأما قول أبي حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم. /وهذا كقول من قال: لا أعلم أنهم رضوه. وهذا يقتضي أنه ليس عندهم من الطبقة العالية، ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له، ولأمثاله. لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه. وإذا كان كذلك، فيقال: إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة، لم يقبل الجرح إلا مفسرًا، فيكون التعديل مقدمًا على الجرح المطلق. الوجه الثاني: أن حديث مثل هؤلاء يدخل في الحسن الذي يحتج به جمهور العلماء، فإذا صححه من صححه كالترمذي وغيره، ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر، كان أقل أحواله أن يكون من الحسن. الوجه الثالث: أن يقال: قد روي من وجهين مختلفين: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أبي هريرة، ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ، ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه، ولم يكن فيها متهم، ولم يكن شاذًا: أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات. وهذا الحديث تعددت طرقه، وليس فيه متهم، ولا خالفه أحد من الثقات، وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين، لم يأخذه أحدهما / عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه، علم أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب. وأما الخطأ، فإنه مع التعدد يضعف، ولهذا كان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط، ولهذا قال تعالى في المرأتين: فإن قيل: فهب أنه صحيح، لكنه منسوخ، فإن الأول ينسخه، ويدل على ذلك ما رواه الأثرم، واحتج به أحمد في روايته، ورواه إبراهيم بن الحارث عن عبد الله بن أبي مُلَيكَة أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها. قيل: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنه قد تقدم الخطاب. بأن الإذن لم يتناول النساء، فلا يدخلن في الحكم الناسخ. /الثاني: خاص في النساء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور)، أو: (زائرات القبور)،وقوله: (فزوروها) بطريق التبع، فيدخلن بعموم ضعيف إما أن يكون مختصاً بالرجال، وإما أن يكون متناولاً للنساء، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص، لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص، إذ قد يكون قوله: (لعن الله زوارات القبور) بعد إذنه للرجال في الزيارة، ويدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، وذكر هذا بصيغة التذكير التي تتناول الرجال، ولعن الزائرات جعله مختصا بالنساء. ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج باق محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فكذلك الآخر. وأما ما ذكر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ فأحمد احتج به في إحدي الروايتين عنه، لما أداه اجتهاده إلى ذلك. والرواية الأخري عنه تناقض ذلك، وهي اختيار الخرقي وغيره من قدماء أصحابه. ولا حجة في حديث عائشة. فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفع ذلك بأن النهي منسوخ. وهو كما قالت ـ رضي الله عنها ـ ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها: (قد أمر بزيارتها) فهذا يبين أنه أمر بها أمرًا /يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة، ولكن عائشة بينت أن أمره الثاني نسخ نهيه الأول، فلم يصلح أن يحتج به وهو النساء على أصل الإباحة. ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور، لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها: لما زرتك. الجواب الثالث: جواب من يقول بالكراهة من أصحاب أحمد، والشافعي، وهو أنهم قالوا: حديث اللعــن يدل على التحريم، وحديث الإذن يرفع التحريم. وبقي أصل الكراهة. يؤيد هذا قول أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا. والزيارة من جنس الاتباع فيكون كلاهما مكروها غير محرم. الجواب الرابع: جواب طائفة منهم: كإسحاق بن راهويه، فإنهم يقولون: اللعن قد جاء بلفظ الزوارات، وهن المكثرات للزيارة، فالمرة الواحدة في الدهر لا تتناول ذلك، ولا تكون المرأة زائرة، ويقولون: عائشة زارت مرة واحدة، ولم تكن زوارة. وأما القائلون بالتحريم: فيقولون: قد جاء بلفظ (الزوارات). ولفظ الزوارات قد يكون لتعددهن، كما يقال: فتحت الأبواب، إذ لكل باب فتح يخصه، ومنه قوله تعالى: ومن هؤلاء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بما روي في التشييع من التغليظ، كقوله صلى الله عليه وسلم:(ارجعن مأزورات غير مأجورات،فإنكن تفتن الحي،وتؤذين الميت). وقوله لفاطمة ـ رضي الله عنها ـ:(أما إنك لو بلغت معهم الكُدَي لم تدخلي الجنة،حتى يكون كـذا وكـذا) وهـذان يؤيدهما ما ثبت في الصحيحين مـن أنه:نهى النساء عـن اتباع الجنائز. وأما قول أم عطية:ولم يعزم علينا،فقد يكون مرادها لم يؤكد النهي،وهذا لا ينفي التحريم،وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم،والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في ظن غيرهالجواب الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك يذَكر بالموت، ويرقق القلب، ويدمع العين، هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة، لما فيها من الضعف، وكثرة الجزع، وقلة الصبر. وأيضا، فإن ذلك سبب لتأذي الميت ببكائها، ولافتتان الرجال / بصوتها، وصورتها، كما جاء في حديث آخر: (فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت). وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة في حقهن، وحق الرجال، والحكمة هنا غير مضبوطة، فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع. ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية، أو غير منتشرة، علق الحكم بمظنتها، فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك من النظر، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة. فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها. ولهذا قال الفقهاء: إذا علمت المرأة من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل، لم تجز لها الزيارة بلا نزاع.
|